الاقتصاد الأمريكي: الحقيقة التي يجب على كل متداول إدراكها

Paul Reid

صحفي أسواق المال لدى Exness

يبدو في ظاهر الأمر أنّ الاقتصاد الأمريكي يشهد انتعاشًا ملحوظًا، فمعدل نمو الناتج المحلي الإجمالي آخذ في الارتفاع، والبطالة في أدنى مستوياتها، والإنفاق الاستهلاكي ما يزال قويًّا. غير أنّ هذا المشهد المشرق لا يعكس بالضرورة الواقع الكامل. فالمتداولون مطالبون بالنظر إلى ما وراء هذه الصورة الزاهية، إذ إنّ ما يُروَّج له في الإعلام المالي الغربي لا يخلو من تضليل.

إليك نظرة واقعية حول حقيقة الاقتصاد الأمريكي، لتتمكن من كشف المغالطات المنشورة، واتخاذ قرارات تداول مبنية على وعي وفهم أعمق.

الخطاب الإعلامي السائد

ما إن تُشغّل إحدى القنوات الاقتصادية الأمريكية، حتى تنهال عليك الأنباء الإيجابية والتقارير المتفائلة. فالبيانات لا تكذب... أليس كذلك؟ لكن، ما يُعرض هو نصف الحقيقة فقط.

ثمّة ثلاث إشارات تُكرَّر على ألسنة أغلب المدونات المالية والنشرات الإخبارية، ويُروّج لها وكأنّها أدلّة دامغة على متانة الاقتصاد. لكن، ما مدى تأثير هذه المؤشرات فعلاً؟ ذلك ما سنسعى إلى كشفه لاحقًا. فلنرى لماذا يُصوَّر الاقتصاد الأمريكي وكأنّه في أوج ازدهاره:

  1. نمو الناتج المحلي الإجمالي: سجّل الاقتصاد الأمريكي في الربع الثاني من عام 2024 نسبة نمو سنوية بلغت 2.8%، في إشارة إلى تعافٍ اقتصادي ملحوظ.
  2. قوة الإنفاق الاستهلاكي: حافظ المستهلكون على وتيرة إنفاق نشطة، وكان لهذا الإنفاق دور بارز في دفع النمو الاقتصادي.
  3. انخفاض معدلات البطالة: تُظهر الأرقام الرسمية انخفاضًا في نسب البطالة، مما يوحي بسوق عمل نشط وفرص تشغيل متاحة.

غير أن هذه المؤشرات، على تفاؤلها الظاهر، تستدعي قراءة متأنية لا تخضع لمجهر الإعلام السائد.

مراجعة واقعية للاقتصاد الأمريكي

الناتج المحلي الإجمالي يتضمن مجموعة واسعة من المؤشرات، لكن ثمّة جوانب يتعمّد الإعلام المالي تجاهلها. على سبيل المثال، يُعد الإنفاق الاستهلاكي مكوّنًا رئيسًا في حساب الناتج المحلي. وكلما زاد الإنفاق، ارتفعت قيمة الناتج. إلا أن هذه الزيادة كثيرًا ما تكون انعكاسًا مباشرًا لارتفاع الأسعار بفعل التضخم، حين يرتفع، ترتفع معه الأسعار، فيزيد الإنفاق، لا نتيجةً لقوة شرائية حقيقية، بل بسبب غلاء المعيشة.

يمثل الإنفاق الاستهلاكي أكثر من 68% من الناتج المحلي، ما يجعل من التضخم عاملًا مضخمًا للبيانات الاقتصادية. وفي ظل الأوضاع الاقتصادية المضطربة والإجراءات المتخبطة، أصبح الناتج المحلي مقياسًا خادعًا لقوة الاقتصاد.

والأسوأ قادم.

ففي الربع الثاني من عام 2024، بلغ إجمالي ديون الأسر الأمريكية رقمًا قياسيًا عند 17.8 تريليون دولار، ما يعكس نزعة مقلقة نحو الاقتراض. ارتفعت أرصدة بطاقات الائتمان إلى 1.14 تريليون دولار، بنسبة زيادة سنوية قدرها 5.8%، فيما شكّلت قروض الرهن العقاري الحصة الكبرى بواقع 12.52 تريليون دولار.

كما أسهمت قروض السيارات والطلبة في هذا العبء المتنامي، لتصل إلى 1.63 تريليون دولار و1.59 تريليون دولار على التوالي.

والأمر لا يتوقف هنا. فالناتج المحلي يشمل أيضًا الإنفاق الحكومي. فعندما تقدم الولايات المتحدة 40 مليار دولار كمساعدات عسكرية لأوكرانيا، فإنها لا تمنح نقودًا، بل ترسل أسلحة ودبابات قديمة، وتُدرج قيمتها ضمن الناتج المحلي! أي أن قيمة هذه المساعدات تدخل ضمن الحسابات الاقتصادية كإنتاج، رغم أنها لا تُسهم فعليًا في تحسين حياة المواطن الأمريكي. إنه تضخيم آخر لأرقام النمو. لكن مشكلات الإنفاق الداخلي ليست وحدها ما يواجه الاقتصاد الأمريكي.

صعوبات تجارية تلوح في أفق الولايات المتحدة

إن تصاعد التوترات الجيوسياسية لا يخدم مصالح أي دولة، وبما أن الدولار الأمريكي لا يزال العملة الاحتياطية العالمية، فإن هشاشة الاقتصاد الأمريكي تبدو أكبر من غيره. كما أن العقوبات التجارية والرسوم الجمركية التي فرضتها الولايات المتحدة في السنوات الماضية، غالبًا ما ارتدت سلبًا على اقتصادها.

وها هي دول مجموعة بريكس تتحرك لتمكين التجارة الدولية بمعزل عن النفوذ الأمريكي، مدعومة بمبادرات مثل مشروع mBridge، وهو نظام دفع بديل قائم على تقنية البلوك تشين، يهدف لتسهيل المعاملات التجارية دون المرور بالدولار.

كل هذه التحولات ترسم مشهدًا قاتمًا لمستقبل الهيمنة الاقتصادية الأمريكية. وليس من المستغرب أن تتوجه بعض الدول إلى الصين سرًّا تحت مسميات "محادثات السلام"، بعيدًا عن عباءة واشنطن.

ولكن، كيف وصلت أمريكا إلى هذه المرحلة؟ لعلّ السبب يعود إلى تاريخها في الضغط والتلاعب بحلفائها، منذ أن تخلّى الرئيس نيكسون عام 1971 عن ربط الدولار بالذهب، مخالفًا وعود بلاده السابقة. وعلى الرغم من تعدد الدوافع التي تدعو إلى الابتعاد عن الاقتصاد الأمريكي، يبقى الدين العام هو العامل الأبرز والأخطر.

الجبل البالغ 35 تريليون دولار... عقبة لا يمكن تجاهلها

الدَّين القومي الأمريكي يُعد من أكثر القضايا التي لا تحظى بالاهتمام الكافي عند الحديث عن قوة الاقتصاد الأمريكي في وسائل الإعلام. فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أصبحت الولايات المتحدة صاحبة العملة الاحتياطية التي سهّلت التجارة الدولية، حيث اقتنت دول عديدة الدولار الأمريكي على أساس أنه مربوط بسعر الذهب.

لكن حينما قرر الرئيس نيكسون أن يقدّم مصالح الاقتصاد الأمريكي على التزاماته بموجب اتفاقية "بريتون وودز"، تحوّلت أمريكا إلى ذاك الصديق المزعج الذي لا يتوقف عن الاقتراض، ولا ينوي السداد.

دعونا نبسّط الصورة قليلاً لنُدرك مدى غرابة هذا الإهمال.

تخيّل رجلاً يخرج من قصر فخم ويستقلّ سيارة باهظة الثمن. بالنسبة لجيرانه، يبدو ميسور الحال.

لكن، ماذا لو علمنا أن عليه رهناً عقارياً متغيّر الفائدة قد خرج عن السيطرة، وأقساط سياراته تتصاعد شهرياً، حتى باتت نفقاته تساوي أو تفوق دخله؟ بل إنه يسدّد الفواتير باستخدام بطاقة ائتمان! هذا تبسيط مفرط لوضع أمريكا المالي، لكنه يوضح جوهر المسألة.

في السنة المالية الحالية، تعاني الولايات المتحدة من عجزٍ قدره 1.5 تريليون دولار، أي أن ما تنفقه يفوق ما تجنيه بكثير. وحده عبء خدمة الدين يُكلفها تريليون دولار، وحتى لو توقفت أمريكا عن سداد ديونها، فإنها تبقى بعيدة عن تحقيق التوازن.

واليوم، بدأت الدول تجد منفذاً للهروب من هيمنة ما يُسمى بالعملة الاحتياطية، وتنسحب بهدوء، متجنّبة إثارة أزمة مالية عالمية.

فالدول تدرك أن الولايات المتحدة لن تسدّد ديونها، بل ستواصل زيادتها، مما يجعل الدولار الأمريكي قنبلة موقوتة ينبغي أن تُؤخذ على محمل الجد من قِبل كل خزانة، ومتداول، وبنك مركزي.

وتدرك أمريكا هذه الحقيقة جيداً، لذا تُسرع لتصبح دولة مكتفية ذاتياً، من التكسير الهيدروليكي للنفط إلى تصنيع الرقائق الإلكترونية محلياً، استعداداً لعالم قد يدير لها ظهره، وتحالفات قد تتفكك.

أفكار ختامية

الشعور العام أداة قوية في عالم المال، ويحرص الاحتياطي الفيدرالي والإعلام الأمريكي على تجنّب إثارة الذعر الجماعي. وطالما ظلّ المزاج العام العالمي متفائلًا، فإنّ الولايات المتحدة ستواصل مراكمة الدين، وهي على شفا الهاوية الاقتصادية.

لكن عندما يبدأ المتداولون في رؤية الحقيقة الكاملة للاقتصاد الأمريكي – وغيره من الاقتصادات – فقد تنطلق أحداث متتابعة تؤدي إلى ركود اقتصادي جديد. لذلك، جهّز نفسك من الآن.

حتى ذلك الحين، ستبقى الشاشات تعجّ بمقتطفات مختارة من الأخبار، لا طائل منها للمتداول المتبصّر، سوى أنها تعبّر عمّا تريد أمريكا للعالم أن يراه.

قد تكون تلك التقارير الإعلامية والإعلانات الاقتصادية مضلِّلة، وقد تكون الأرقام معدّلة، إلا أنّها تظل تؤثّر في شعور المتداولين الذين لا يذهبون أعمق من العناوين، لذا، في المدى القصير، قد لا يزال من المجدي "شراء الإشاعة وبيع الخبر".

مشاركة

تداوَل مع وسيط موثوق به اليوم